إعلان سخطك على مجتمعك وشتمك لقيوده بتمرد مجنون،
قد لا يخلو من مبالغة وتعالٍ واغترار،
وانعزال عن الأغلبية كنتيجة متوقعة،
المبهر في تلك القصص، هو أن سحر المعجزات يبدأ في فترة الانعزال هذه.

تجرّدك من ضغوط المجتمع تضفي إلى أفكارك مصداقية أكبر، ولو بعد حين،
لن يؤيد أحد ما يُمارس من تكبر وعجرفة في مبتدأ طريق الثائرين، 
لكن لا بد من مراعاة تلك الطبيعة مهما حدث بل وتقويم طريقها لا قمعها ، فطالما أن العقل في تيقّظ من سبات كاد ألا ينتهي، فلا محالة من الوصول لنور الحق في ظل الجهد الصادق المستمر.

اشمئزّي يا ابنتي ممن تنظر إليكِ بأعين الرجال، لتتمكن من تخيل سعادة ابنها كزوج لكِ، وساومت عليكِ علنًا كبضاعة مثيرة للاهتمام.
لستِ مضطرةً لتصنع الخجل حين يوزعون نظراتهم بحثًا عن عيوبكِ ومزاياك.

لن أؤيدك إن سمحتِ لغضبك بإقناعك أنهم ذوو نوايا قبيحة، لكن سأذكرك بأنها مجرد عادات ذات أصل وأثر دنيء، وطُهر قلوبهم وسلامة نواياها جديران بالذكر مع أنهما لم يمنعاهم من أن يودوا بحياتكِ إلى جحيم  في هيأة عاشق وسيم..

لا بأس عليكِ إن عُميتِ يا ابنتي بذاك الغضب، وصحتِ فيهم بكل غرور "أنا لستُ نصفًا!  لا أحتاج لمن يكمّلني" رغم أنك أول من تكتب في دفاترها أنها وغيرها ليسوا بكاملين..

صفاء الذهن الذي تمنحه العزلة، كفيل بتغيير ذلك،
فأي تناقض يحدث، هو مجرد إشارة على فقدان حلقة ما لإكمال التسلسل وسد الثغرات.
في عالم الأفكار، تلعب الحكمة دور تلك الحلقة، التي ستصل شواذ قواعد الحياة ببعضها،
الهدوء سيطرح ذلك السؤال بصخب مقرع :
"ما معنى تصرفكِ بمثالية، وادّعائك بالبراءة منها؟!"

"ما معنى إيمانكِ بما لقنتِ من أحاديث وآيات، وتأجيل التسليم بها ريثما تخضعينها لتجارب الحياة والطبيعة البشرية؟!"

للعزلة أثر جميل على صحة الفكر، لكن القبوع بها للأبد له أثر معاكس،
فمتابعة الطريق بعد العزلة، بانخراط في المجتمع وانصدام عنيف، واختلاف مفاجئ، يفيق العقول من غفوة أخرى قد غطّ فيها سهوًا حين كان يهرب من سبات قديم.

تلك العزلة التي يتردد فيها صوتكِ أنتِ فقط، تزيّنه بصدىً ساحر، توهمكِ بأنه قويٌّ عذب.

اخرجي للعالم الواسع الذي سيضيع فيه صوتك، لتحاولي الصراخ بجهود مضاعفة، وتري أنكِ في أسفل القائمة، وأن هناك الكثير ممن يتفوقون عليكِ. سيتحطم كبرياؤك، حين تري كل الأساليب التي تجنبتها ظنًا أنها غير مجدية، هي سبب ارتقاء من نجح.

ستعلمين وقتها كم كنتِ جاهلة، وأن جهودك وإن كنتِ تظنينها جبارة، فهي زالت بحاجة لرعايةٍ أو لصقلٍ ممن حولك.
ضعيفةٌ أنت فلا تتعالي على إخوتكِ البشر، ستحتاجين أعينهم إن نسيتِ مرآتك،
لن تعرفي عن نفسكِ أكثر من نصفها،
ولن يعرفوا هم كذلك أكثر من نصفك،
ولن تُعرفي أبدا إلا بجمع الكتب التي رويتها عن نفسك، ورُويت عنك.

مثيرةٌ للشفقة!
احمي مشاعركِ وكبرياءكِ من انتقاداتهم بلومهم على غيرة أو حقد، أولئك لهم عائلاتهم وتقاليدهم.
ارجعي إلى أهل بيتكِ الأكثر تشابهًا، إلى والديك اللذان يختلفان عنكِ قليلًا بأفكارهم المتوفيّة منذ عقود، سيؤيدان انتقاد المجتمع لتكبركِ عليهم، بنبرة باردة وقليل من الاستهانة بحجم الخطأ واحتمالية تقويمه سريعا.

ومن ثم تذمري منهما عند إخوانكِ الكبار الذين مرّوا بما مررتِ به وسيعيدون ما قيل لكِ مع نبرة حزينة وذكرى لضربة لازال أثرها مؤلما، فلا يزال هناك اختلاف سنهم الذي علمهم أكثر مما عندكِ.

ستصلين إلى غرفتكِ متفاجئة بالفوضى التي أحدثها إخوتكِ الصغار، اصرخي بما تشائين من توبيخ، ولن يأبهوا لكِ إلا إذا أراودوا أن تساعديهم في تركيب ألعابهم،
وحين ترفسينها لإهانتهم ردًّا على ذلك الطلب، سيكررون على مسامعكِ ذات النقد بكلمات قاسية بغير قصد ولا تخطيط، فتدمع عيناكِ وتصمتين، وتتصرفين وكأنكِ لم تسمعي ما قالوه بغضبهم وعزّة أنفسهم النقيّة.

عودي وتقوقعي في عزلتك، لن تجدي من يشبهك، سوى صديقات وجدن في تشجيعكِ على اتفقتن عليه من أخطاء، سلوىً وعزاء..
لن يريحكِ ذلك أبدا، فلن تستطيعي التخلص ممن حولكِ مهما حاولتِ..

اطرحي المواضيع مجددًا للنقاش على طاولة العشاء العائلية، وابكي سوء تقديرك، ابكي عجزك عن رؤية أخطائك، وابحثي عن الحلول معهم.

تمددي على سريركِ ولا تنامي،
ادعي الله أن يحفظ لك عائلة تذكر عيوبك بحب، وينعم عليكِ بمن يندم معكِ من صديقات، وأن يقوي قلبك فيرى الصدق في لذاعة النقد، مشاركا الضحك على نكات الناقمين منكِ فيما أصابوا من آراء، ويائسا بحزن الاعتذار ممن واجهك بانزعاجه..

أتذكرين تجريحك في الطبيعة البشريّة؟
لست بصدد استغلال يأسكِ في إقناعك بالتراجع عما قلتِ، لأني أعلم يقينًا أنه لم يأتِ من فراغ،
أصبح البشر فعلًا يتزاوجون وينجبون لنفس ذاك الهدف الحيواني .

سؤال يوجهه لكِ أرق هذه الليلة المميزة، الذي سيصادقكِ أكثر من العزلة:
"لمٓ لم تصدقي انتقاد المجتمع لكِ منذ البداية ووفرتِ هذا الحزن على نفسك؟"
"لماذا استدعى الأمر أن يُعاد الانتقاد من قبل عائلتكِ فردا فردا؟"

المجتمع يرى ظاهرك وتصرفاتك عزيزتي،
أمّا عائلتك، فهي ترى نفس الشيء مضافًا إليه أنها تعرف طباعك وشخصيتك وتحبك كثيرًا، وهذا ما سهل لكِ تقبّل حديثهم معكِ فيما قد يعدّ تطفلًا إن حدثك به الغرباء.

أنتِ تعرفين نواياكِ ودوافعك، إظهارها لن يزيد علاقاتك إلا تعقيدًا، سيتوجب عليكِ التعامل معها بمفردك، لكنك لن تتمكني من رؤيتها بعد أن تُترجم إلى أفعال تظهر للعالم الخارجيّ.

وبعد ذلك يأتي زوجك، وله قد تفضي بكل ما لديك من أسرار، فيد واحدة قد تتحمل ثقلًا وأعباء، ولكنها حتما ستخف إن حملتها يدان، فتلك النوايا والخبايا، ستتم تنقيتها وإعادة ترتيبها بمساعدة شخص إضافي لإصدار حكم أكثر إنصافًا بحق نفسك.

ستنجبين أطفالًا يثبتون لكِ أن كل ما كونته من أفكار ظننتِ أنها حكمة، هي مجرد خرافات، وسيدورون بكِ في متاهات، مفادها أنك لن تبلغي الكمال أبدا، وأنكِ إن فكرتِ يومًا بالقعود كسلًا واكتفاءً، فستتخبطين في تلك الدوامة، وتصابين بصداع لا يزول إلا بمتابعة الدوران والتجدد والتعلم اللامنتهي حيث لا وجود للاكتفاء.

ستغوصين في عائلة جديدة من تكوينك، قد تفوز بكل قلبك وحبك، لكن لن تحوز عليكِ كاملة.

وحتى إن أردتِ البوح لهم بكل ما تشعرين وتنوين، فإن طبيعتك البشريّة ستخونك، وسيظل دائما على الأقل باب واحد للشك والحزن والمشكلات بينكِ وبين هذه العائلة التي تعتبرينها أعزّ ما تظنين أنكِ تملكين، لأنكِ لن تملكيهم ولن تصفو لكم الحياة بسعادة أبدية.
ستمنين لو أن بمقدورهم تفهّمكِ أكثر، وسيظل الشرح والتوضيح متعبا أكثر من الاعتذار وأريح من السكوت المرّ.

لديكِ من يحبك منذ أول يوم في حياتك، وهو وحده يستطيع منحكِ كل ما تحتاجين من أمان، ولكنكِ لا تنفكين تطلبين ذلك الأمان من كل عاجزيه، وكأن التفاتك إلى هذا المحبّ مضيعة للوقت ومستحيل النفع.

ستفهمين حاجتك الملحّة إليه، حين لا تجدين مفرّا غيره،
أو ربما حين يبدأ هو بالتخلّي عنكِ، فقط ليشعركِ بقيمة ما كان بين يديكِ بعد فقده، فهو يعاتب كعاشق يروّض معشوقه، لا لينهي الحب، بل ليبني له مستقبلا مزدهر بالشغف، خالٍ من العلل.

عمومًا..
إذا أردت إعادة الوصال به، فلا بد لكِ أن تبحثي عنه سبحانه في داخلك، وستجدينه بطريقة واحدة فقط، وهي أن تكوني صادقة.

ستدركين عندها أنه هو أصدق من صادقك، وأقرب من قاربك، وتتذكرين كيف مضت كل لحظات حياتك وهو معك، ما جعله بفهم كل ما أنتِ عليه، ما ستكونين وما لن تكوني.

ليس باستطاعة أحد أن يصل إلى كل ما يدور بذهنك كما يفعل الله، ولن يعرفكِ أحد قدر معرفته لكِ،
لذلك هو سيعذرك ويسامحك، يفرح بطيباتك ويحزن لسيئاتك، وفي كلتا الحالتين هو لا يتخلّى عنكِ أبدًا.

لن يحبك أحد أبدا بالقدر الكامل، الله فقط سيفعل، وللحصول على حبه بالمقابل، يضطرك فقط الاعتراف بتلك الخطايا بكل الندم والذوبان في الحب، 
فقط كوني معه، وإلا لن تجدي طريقا للاستمرار في الحياة بصحّة، وستبقين في حاجة وتذلل لمن لا يزيد عنكِ أو ينقص.



لو أيقنّا فعلًا، أننا ناقصون، نعيش في عالم ناقص، لن نتمكن من النجاة فيه إلا بالتعاون، والعمل المستتب.
لما كان جشعنا سبب قابع وراء ارتفاع رسوم الدورات التعليمية والتدريب  والتدريس واستغلال ملل الشباب وحماستهم أو حتى خوفهم من الإخفاق في الدراسة.
 لكنّا اكتفينا بمقاطع اليوتيوب التعليمية ونوادي التدريب العامة،
ولوجدنا حملات عامة تدعو لممارسة أنواع كثيرة من المهارات والهوايات في أركان شوارعنا بلا أي مقابل سوى الحب والمرح والتطور.

لو أقررنا فعلًا بنقصنا وصدقّنا أن كل ابن آدم خطّاء، لسامحنا بعضنا وأنفسنا، ولجددنا الهمم في تغيير أنفسنا نحو الأفضل باستمرار، كما ننظف بيوتنا دوريّا من الغبار الذي لا محالة من دخوله إليها.

لو أنّا أحببنا بعضنا حقًا كما ادّعينا، لكانت المرافق العامة في أحسن حال، ولكثرت تلك المرافق وتعددت وظائفها تحت الهدف الأساسي، وهو الترويح عن النفس والاستمتاع بما يفيد.
ولاستمعنا لأعذار من نحب ونكره، ولذكّرنا أنفسنا بأن لنا من يكرهنا ووددنا لو أنه عرف عنّا صلاحنا بعد أن سبقتنا إليه مساوئنا.

لو أن تلك الأخلاق الطيبة هي التي تسود، لكنّا لاحظنا أن من امتدحنا مستخدمًا "كلكم" لم يعمّم وإنما قصد التحدث عن السائد الغالب.

لو لم يكن الخلق السيء هو السائد، لما أحسسنا بالسخافة حين نسينا حقدنا وابتسمنا بصدق في وجه من تحدث عننّا بالسوء بمسمع منّا وتمنينا له صباحًا طيبا.

لو أننا فعلا نقبّح الرياء، لما أحببنا وجهه الآخر، بإخفاء عادات أبنائنا السيئة للمحافظة على سمعة حسنة.

لو أننا اعترفنا بجهلنا ولم نتحجج بـ"لا أحب الحديث في الدين أو السياسة" متناسين أنا خوفنا هو سبب ارتعابنا من المجهول، لما حُرّكنا كقطع متحجرة على رقعة شطرنج ليربح الذكي الذي استغل جهلنا بإخافتنا من أجل أن يفوز هو وحده.

لو أنّنا تواضعنا، ولم نتجبّر بأي منصب قدّر لنا، لما تطاولت المعلمة على طالباتها حين تساءلت إحداهن عن المعنى خلف الأوامر غير المنطقية التي تُتّبع على مدى الزمن،
ولا ظنت أنها أفضل منهن عقلا وفكرا وتدبيرا، أو أعطت لنفسها ما للإه من حقوق لا شعوريا.

لو أننا تعلمنا من الملحدين وكل من أزال عن فكره القيود وفكرنا مثلهم بكل تحرر، لما ظللنا في متاهاتنا ومستنقعاتنا كل هذه الدهور.

لو أننا احتضنّا أبناءنا حين أخطؤوا، للجؤوا إلينا قبل ارتكاب أخطاء جديدة، بدلا من الاختباء والابتعاد بسبب البغض والحقد الناميان بقلوبهم نحونا وإن لم يعترفوا به لأنفسهم.

لو أننا عرفنا معنى النقاش واحترمنا عقول بعضنا، لما ربّينا أبناءنا بالمنع المبتدئ بـ "لا!" والمنتهِ بـ "من غير ليش!".
ولا واصلوا الوقوع في الأخطاء بتكرار يصعب إيقافهم وكبح جماحهم المكبوتة.

لو أننا في صغرنا تصرفنا بطبيعتنا وأفصحنا لوالدينا المعارضين عن كل رغباتنا وواصلنا محاولات النقاش وأصررنا عليه، من غير الخضوع والاضطرار للتمثيل وادّعاء الطاعة، لما وجدنا أنفسنا ننتظر غيابهم بفارغ الصبر لنخلع الأقنعة ونناقض كل ما كنّا عليه في حضورهم.

لو أننا لم نسمح لأنفسنا بذلك التناقض، لكنّا صدقنا مع من أنجبنا، وما أذقناهم ما كرهنا تذوقه من آبائنا، ولا تذمّرنا من أفعالهم المطابقة لأفعالنا حين كنّا بمثل عمرهم.

لو أننا فعلا أردنا إصلاح عالمنا، لتوقفنا عن الإنتقام ممن آذانا، بأذية غيرهم بنفس الطريقة، ولأدركنا أننا بفعلتنا هذه سمحنا لدائرة الخلق السيء بالدوران والتفشّي أكثر.

لو أننا أوقفنا دائرة الأفعال الشنيعة تلك حين أتى دورنا، لما تأففنا من أفعال البعض حين وقع عليهم الدور في إطلاق تلك الشناعة علينا.

لو أننا فقط تحلّينا بالصبر والقوّة، ووثقنا ببعضنا إخوتي البشر، لتمكنّا من إنشاء بعض الفروق، لأننا لا نزال نحتاج لعزيمة من حولنا، فعزيمة وحيدة وسط مستهزئين غالبين، لا تكفي لجعل هذا العالم أفضل.

وستبقى الـ "لو" تُذكر باستمرار، وستحتاج تطبيقا فعليًّا منّا.. لتُفتح أبواب الجنّة..


مريم تُنكر
١٤ أغسطس ٢٠١٤