Artist


 لم تفق يوما بعد رنين ساعة المنبه، فتوقعاتها أبقتها قوية اليقظة، شرارة التأهب تجعلها تثب بلياقة من سريرها، ومن ثم يتفضّل رنين الساعة ويعلو. 


في الساعة الرابعة وعشر دقائق فجرا ستضع ركوة القهوة على اللهب.

بعدها بخمس عشرة دقيقة ستتناول الفطور.

متى ما أرادت تذكّر المهمة التالية، فتحت باب دولابها لتستلّ من جدولها الملصق عليه من الداخل، الموثّق بتوقيت الدقائق.


وهكذا، إلى أن..

تمزّق مع كل ضربة شيئا من أصر الثوابت والمبادئ.

وتاهت حتى استكنّت في محطة الضحايا ومكثت في الانتظار السرمدي.


ماذا تنتظر؟ حتى إن أتى الفارس المغوار، لن ترفع جفنا عينيها لتراه.

مجمدة النظرات رغم تتابع الفصول، عيناها تعيشان في الشتاء.


"أنا ضحية" .. تردد وتبتسم.

"أنا ضحية جميلة.. أحب هذا الدور، إنه السكون، اللا حركة، الهدوء، السلام"


ثم بعد سنوات

ذابت عيونها

وذبلت جفونها

وأصبحَتْ هي نهر منهمر، لا منهار.

مشتتة ومتوزعة أشلاؤها في كل واد يقطع طريقها.



اعتادت التمزّق، فصارت بسخاء تمزق نفسها أكثر.

"هنا سأعطي كبدي، وهنا ربع رئة، هناك سأضع بعض من أغشية جوف بطني، أما بقية أحشائي سأتركها معروضة فلا طاقة لي في عدل التركة. أنا لا أستحقها، لم يكن من المفترض أن تكون لديّ ،فخذوها لعلي أؤجر بانتفاع غيري منها".



تضحك لأنها لا تتألم.

كما تعددت رنّات المنبه في كل صباح، المنبه الذي تفوّق عليها في السباق، لكنه لم يقو بعدها على إيقاظها مهما صرخ.





احذروا المخدرات 👍



أبنائي
 الذين تركتهم في أسوأ دور رعاية.

يا لقسوتي وأنانيتي، فضّلت نفسي على رحمي المتيبّس.

الحقيقة أني كنت أختنق بوجودكم الذي كنت أتنفسه وأحيا به في الآن ذاته.

حرّرت شعبي الهوائية أخيرا بإبعادكم عني.

أردت بيتا نظيفا لأن شعركم الحريري الدافئ العطوف كان يهيّج جهازي التنفسي.


لقد خذلتكم.

لمن أعتذر؟ وعمّ أعتذر؟

أأعتذر عن المأوى المزيف والترف الذي انتزعتْه منكم يداي؟

من شدة القسوة والأنانية لم أودعكم، لأني خشيت الحب الذي تكبّرت عن إظهاره في دقائق الفراق.



عندنا تقزّزوا منك إخوتي يا Chance ، أظهرتُ أنا أول علامات التخلّي وتجاهلتك، تركتك تنام عند باب المجلس الذي امتلأ بالضحكاتكنتَ حزينا ولم آبه أنا لحزنك


أمّا أنت يا Yuki، يا ذا العينان الكحيلتان، فعندما أهملتك Etam، صرتَ ترضخ أخيرا لحجري وتمسح لي بالمسح على شعرك الناعم


آهٍ يا Etam ، أنتِ التي كنتِ تعانقين عنقي كل لحظة، لطالما توسّدتِ وجهي عند منامك، ففوق وجه من تنامين الآن؟


أنا أم بائسة، أنا لا أستحقكم.

وعندما تطفّلت على أخباركم، علمتُ شدة بؤسي.

أنا أعتذرأنا لست بأم، فالأمومة عكس الأنانية.




لم تولد سوسن في ليلة الأربعة عشر من أي شهر هجريّ، ووُلدت في "غير ذلك"،

كانت حفيّةً بشكل مدهش بالليلة الرابعة عشر من كل شهر وكأنها هي الليلة التي تُولد فيها من جديد.

ولكن تلك الليلة مرتبطة حقًّا بميلاد مميز بكل من الاثنا عشرة شهرا على مدار حياة الكون المتجدد.

وفي كل شهر يكون هذا الميلاد بهيًّا لدى سوسن، وكأنه الأول والأخير، رغم تكرره الاعتياديّ غير مستحقّ الملاحظة عند عظمى البشر.

لم تعدّ سوسن الحلوى ولا الهدايا قطّ لهذه المناسبة الكونية الصامتة، وكان قربانها للوليد حسَن الطلعة هو قلب كبير يتفجّر حبا وعينان سخيتان بأمطارٍ محتفظةٍ بملوحة البحار، ويدان ارتفعتا تحت ذقنها متقاطعةً ومتحاضنةً أصابعهما بضغط واعتصار، متمتمَتين بالدعوات السريعة المتدافعة أن ربّاه احفظ عقل سوسن من الجنون.

 

 

لا تملك سوسن رفاهية الفرص المطلقة للقاء بالوليد بهيّ الطلعة لتحتفي به كما تتمنى، فهي تعيش في ظروف نهاريّة شاقّة، لا تسمح بلقاءات بينها وبين سماء سوداء، وإن تلاقت بها فإنها لا تستطيع إطالة وقت اللقاء إرضاء لطمع العشق المتأجج التهابًا بقلبها الحسّاس.

لدى سوسن تقويم سنويّ مثبّت على جدار غرفتها بالشريط اللاصق الذي اعتاد وجبته من طلاء ذلك الجدار، على التقويم لوّنت كل عدد ١٤ رأته وهي تلاحق بقية الأرقام بأصبعها الحذر وعيناها التي ضاقتا لتحدّ الرؤية مزيدةً في الدقة، مرورا على كل الأزمان التي وثقت أنها ستحيى حتّاها، بلهفة أمٍّ سجينةٍ تعدّ الأيام والليالي شوقا لموعد الزيارة ورؤية وليدها.

 

وفي ليلة أربعة عشريّة باعتيادية، تمكّنت لهفة الشوق من تسريب بعض الجنون لعقل سوسن، وتمرّدت سوسن، منتهزةً غياب والديها، تسللت إلى سطح المنزل، إلى المكان الذي تحررت فيه أخيرا مستفردةً بالسماء كاحلة السواد، كانت تشعر بوخزات على جلدها بالكامل، إنها نشوة اللقاء بالحبيب، لا صوت يُسمع إلا واحد، هو صوت نبض قلبها المتسارع، تسارعت كذلك أنفاسها وهي تتلفّت بلا صبر في سجاد الظلام أعلاها، متسعة عيناها بخوف متأهب للقاء، حتى رأته.


بعينيها الكبيرتين الحالمتين ، تطلقهما لتصبحا ممتدتا البصر إلى مدىً لا نهائي، ثاقبتا الرؤية، تنظران بلياقة عالية، بحدّة عينا صقر مصمّم على هدف، مخترقتان كل الأبعاد، متحررتان من فقر مساحة العيش بين الجدران الحارسة الحامية الصامتة والمصمتة، تطلق بصرها بحريّة خيل اخترق الريح بثقة مسرعا وكأنه الضوء. عينان يماميّتان بتفوّق، برّاقتان بالأمل والدهشة. 

بصرٌ طليق بصلابة حديدية، فضوليّ متعفّفٌ ببراءة البتول وحنان الولود، واعٍ بأيّ مقام تبات حرّيته. 

لبقٌ كأمير، وجسورٌ كجنديّ، ومتيّم كشاعر.

بصرٌ يتأمل شغفا وولعا وهياما.


رأته، أبصرته وتبصّرته. ناظرته ودرسته وتدبّرته. 

عاليا، شامخًا، يلفه الوقار قبل الظلام، وحوله هالة النور المهيبة، الصمت هنا ثقيل جدا ومسموع، إنه حرم الجمال.

وعلى قدر اتساع محاجر مقلتا سوسن، إلا أن الدموع تدافعت وانصبّت متواصلة.

وفاها يتثاقل ويهبط مباعدا بين شفتيها..

وقالت بصوت منهك: "ألهذا ظنّ نبينا إبراهيم أنك إلهنا؟"

أجهشت بالبكاء برأسها المرتفع وعنقها المشرئبة نحو السماء، عيناها تلتهمان المنظر بشهية وشراهة، وعقلها متخبّط بين الجنون والوعي، التأثر بالغ أقصاه، والهوى قد أنهك علاماتها الحيوية.

كان لقاء طويلا أشبعت به سوسن اشتياقه، لقاءٌ متلحفٌ بالسموّ والرهبة الممزوجين بنعومة لهفة العاشقين.

ودّت لو أنها عاينته، لتلمّه وتضمّه داخل قلبها العطوف، وتملّكته بأنانيّة وغيرة العروس. 

أشفقت سوسن من أمنية ملامسته، فيداها خشنتان ومجهدتان من العمل. ولكنهما فيض أنهار من البركة، ذهبيّتان وسخيّتان بالعطاء.

جفّت عيون سوسن طويلة التأمّل خفيّة الطرف، وعادت إلى البيت، لتنام عيونها بأمان وارتياح.

ممتنة سوسن لنفسها هذا اللقاء السريّ الحلال، ولكنّه لم يتكرر كثيرًا بعد ذلك.

 

مضت الحياة بعتيّها وسهلها المتبادلين، وخلايا جسد سوسن تتجدد وتتبدّل، والأيض معتاد سبيله في الهدم والبناء، بعكس بيت سوسن وعائلتها الذي لا يُهدم ولا يبنى. بل يتحدّى التهالك، ويتعمّر بترف السلام والودّ والتراحم، وثراء الترابط والتعاضد، ورفاهية الـ "عاديّة".

ذُبحت أغنام ورُعيت أخرى، والحال يسري بالرضا وجود الرزق. مبتدئًا بالكدّ ومنتهيا بالحمد.

طالت ضفائر سوسن، وأينعت ملامح وجهها الوضيء الذي صار يدّثّر بشال عن مرأى الرجال غير المحارم، كما سُبق اسمها بعمّة وخالة.


عُقد قران سوسن.

وجاء خطيبها عبدالمحسن يطلب من والدها إذن اصطحابها معه في نزهة قصيرة بالسيارة (الوانيت). وقد كانت تلك ليلة خمس عشرية هجريّة.

 سارعت سوسن بتحضير الشاي في إبريق النزهات، منكبّة على التجهّز بفكر لم ينشغل سوى بعشيقها الأثريّ الأول الذي كان بالأمس.

 

وصلا الزوجين إلى المنتزه، وجاء رجلُ سوسن يساعدها بالخروج من الوانيت ليرافقها إلى الحوض الخلفيّ له، ثمّ عاونها على صعوده والجلوس فيه. جلس عبدالمحسن بجانب سوسن بعد أن قام بتشغيل أغنية "هذه ليلتي". وأمضيا وقتا صامتا جدا تتخلله بعض الحوارات الخجولة، وصبّ كؤوس متتالٍ للشاي. لم تعتَد سوسن استعمال أو سماع صوتها الهادئ الشجيّ، بل إن هذا الحدث مغامرة جديدة.

 

 

عادت سوسن إلى غرفتها ولم تنم.

بقيت مستلقية نصف الساعة على مضجعها، وبجانب رأسها دفتر مدوناتها الأسود الضخم.

نامت سوسن. وفي الصباح رتبت غرفتها ثم حملت دفترها، وبدأت بالتدوين:

 

"ليلةُ أقمار

 

شاهدتُّ القمر العملاق بالأمس، لكن هذه المرة لم أبكِ عند تأمله. كنت مشتّتة ومستعجلة، عجلتُ بإبداء التبجيل والإجلال لحضرته بأقل قدْرٍ حسبتُ أنه سيكفيه.

كان متوهّجا، متوسّطًا السماء، معترشها وسيّدها، بأبّهة وعظمة.

وبرغم سيادته لعرش السماء، أبهرني انهزامه النكير، بمنافسةٍ لم يصمد بها قيد متجزّئ من الثانية.

أما أنا فلم أزل على عجل، لئلا أغفل عن ضياء وجهِ وعينا حبيبي عبدالمحسن.

وجه حبيبي قمرٌ، بدا أشدّ توهّجًا من ذاك العملاق، وعينا حبيبي قمران توأمان، نضّاحان بالدفء الغامر برقّة وحنان.

غصتُ بأعماق محيطاتٍ من خمرٍ تلجّ في تلك العينان القمريّتان، ووجدتُ الهدى متلألئًا على شواطئهما. ثمّ أرهقني سؤالي في البحث عن أيٍّ من الأسماء تُنصف وصف وجه حبيبي القمريّ؟

كل ذلك السُّكْر أمضى أمسًا، ولا أزال أنا خدِرةً هذا الصباح، وأراني إذ تنقّلتُ أني أطير لا أمشي

كانت ليلة منيرةً بثراء.

تعدّدت الأقمار حولي، ولكنّي تشرّبتُ بجمال أقمار حسينيّةٍ ثالوثية، وجهٌ قمر، وعينانٍ قمران، ولا إله إلا الله، خالقُ الحُسْن والبهاء.

وقمرنا الرابع يعلونا، ناظرًا إلينا بطربٍ ونشوة، ناثرًا علينا المزيد من السّحر، معانقًا حبُّنا الأثير، ونحن مزهوّان متنعّمَيْن بحِماه.

تخدّرتُ أيضًا بشايٍ وموسيقى وصوت أم كلثوم الصادق، يقول أن هذه ليلتي وحلم حياتي.

كم وددتُ لو تجمّد الكون، وبقينا عمرًا كاملًا في تلك اللحظة الرّيّانة بالرهف واللطف.

امتلأ قلبي بجمالٍ ذاقته عيناي، فأسرفتا بالتلذّذ على أقل مهلٍ وأناة. وفاضت روحي بالحبّ سُكْرًا.

وها أنا اليوم لا أكاد ألملم ذوباني في ذكرى أقمار ليلة الأمس، أفرغ هذياني على ورق، لتربّت أسطري على قلبي بعد هذه المشاعر الشاقّة".




 صلّت سوسن لله، ربّ جمال هذا الكون المعجِز.

ثم استلقت على سجادة الصلاة، ونامت نوما عميقا لم تتخلله الأحلام، فالواقع أجمل وأروع، حتى وإن كانت ستتأخر عن جلي الأطباق.

الواقع فائقٌ للخيال.

سوسن تحبّ الحياة.