https://www.youtube.com/watch?v=rxc7JOtI_Fg



...


كنت في مكة -مسقط رأسي الذي لم أعد أعيش به- بغرض زيارة المسجد الحرام.
كنت ألهو في الأسواق الشعبية المحيطة بالحرم الشريف، سعيدةٌ بكل ما كان تافهًا واعتياديٌّ بنظري يومًا،
وفي غمرة تلك السعادة، وقعت عيناي على سيدةٍ عجوز،
أحسست بدفء يغمرني بنسمة تبعثها إليّ هيأتها الرقيقة المهيبة، بلا استيعاب من صاحبتها.
نظرها كان مستقرًّا على الطريق والسيارات، تراقب بصمت وفي عينيها فراغ، كانت تبدو وكأنها في حلم لا يبدو أن ضجيج الشارع الشعبي قادرٌ على قطعه.

غارقةٌ، كأنها تصب تركيزها كله في اللا شيء.
 وبين كل هذه التفاصيل، كانت تبدو آسرة الجمال، وكان استقرار نظرها وهدوئها بين تلك الفوضى، أقرب للوحة فنية، جعلت ذهني خاليًا تمامًا من الأفكار.
مجرد عجوز، جالسة، تفتقر ملامح وجهها إلى أي تعبير يساعدني على قراءتها.
لم أصدق تلك الأحاسيس التي انتابتني، وبالأخص ذاك الشعور الدافئ الذي غمرني في تلك اللحظة.

استرعيت انتباه أمي وأختي مشيرةً إليها، لأتأكد من "صحة" مشاعري وعدم مبالغتي:
"أليست بغاية الجمال؟"
 فأجابتا بنفس اندهاشي:
"بلى، جميلةٌ جدًا جدًا"، اطمأننت لردهما كثيرًا.
مازحتهما بشأن رغبتي في التقاط صورةٍ لها، فدار نقاش ضميريّ وأخلاقيّ شائك، وكانت نهايته أني قلت:
"من الممكن أنها ستكون فكرة أجمل لو أنّي استأذنتها في أن تُلتقط لي صورة معها"،
تجيب أمي: "اذهبي إليها حالًا، لا تفوّتي الفرصة! هذه نصيحتي لكِ!".

وهكذا تأكدت من وجود ذلك الشيء الغامض الذي شدّ ثلاثتنا إليها!

ترددت كثيرًا، وتخيلت كم سيكون ذلك الفعل مشينًا، فمن ذا الذي يتجرأ على التقليل من شأن الآخرين ومعاملتهم كقطعٍ فنية جميلة وحسب؟!
وأخيرًا قررتُ أن ذاك الرأي ليس سديدًا أبدًا، كما أوهمت نفسي بأنها "ستسيء" فهمي، وكأن جزءًا مني لم يكن مقتنعًا بسوء تلك الفكرة كليًا.
وبينما أنا أتخبّط في أفكاري، وأحاول اتخاذ قرار ما يعيدني لصوابي، لمحتها تترك مكانها.
شعرت بالذعر! لا أريدها أن تبتعد، كنت متأكدة أن ثمة شيء ما سينقصني إن هي رحلت.
تولّد لدي شعورٌ قويٌ بأن حياتي تعتمد كليًّا على تلك اللحظة، وبداخلي أصوات كثيرة متداخلة وصارخة، ولا أزال أراها تبتعد، وكانت خطواتها بطيئة متثاقلة، لكن بصري كان مخدوعًا، كنت أرى خطواتها سريعة جدًا وأنها سوف تفلت مني.
حتى إذا مرّت من أمامي، وجدت نفسي أندفع نحوها وأمسك بيديها، فالتفتتْ نحوي، وكأنها كانت تنتظرني.
هالني ذلك الموقف، تعجبت من عدم تفاجؤها بي، وكنت قد تعديت على خصوصيتها بلمسها.
وجدتُ نفسي بلا كلمات تنقذني، لم أدرِ ماذا أقول، فحاولت تدارك الوضع قائلة: "كيف حالك.. يا خالة؟"،
وجّهت نظرها نحوي بعينين متسعتان، متعبتان، وكأنها ناجٍ من غريق في حالة شرود وتركيزٍ مفقود. أشعرتني بالضياع التامّ، وبسرعة بادرتنا بالسؤال وهي تمد إلينا بطاقةً مهترئة: "هل تعرفون أين يقع هذا الفندق؟".
وهنا اتضحت قصة العجوز التي التقيناها في حوالي الساعة الثانية ظهرًا، حيث كانت قد تاهت بعد انفصالها عن حملتها من بعد صلاة الفجر حتى وقت لقائنا، ولم تحمل معها أي مالٍ لتستقل به سيارة أجرة، لأنها لم تتوقع أن يؤول بها الأمر إلى هذي الحال، ففقدت الأمل وجلست على حافة الطريق في حالة اليأس التي وجدناها عليها.
حُلّت المشكلة بأسرع ما يمكن، أوقف لها أخي سيارة أجرة ودفع لسائقها، بينما لم أزل أنا مشدوهة بتفاصيل ما حصل للتو، محاولة استيعاب الأمر الذي كان بالنسبة لي كالصدمات المتتابعة.
جسدي كان مقشعرًّا بلا سبب، حاولت أن أساعد ببحث إكتروني عن ذلك الفندق، لكن لم أستطع، كنت أرتعش، ولم أستطع أن أفيق من دهشتي.
بدا كل شيءٍ سريعًا جدًا.
وأخيرًا، ركبت العجوز السيارة، بعد أن ودعتنا بدعائها لنا بالتوفيق، بدت وكأنها تمنت لو أن بوسعها قول المزيد، ولكنها كانت منهكة جدًا.



أحسسنا بثقل رهيب في الجوّ، الذي كان قبل لقائنا بتلك العجوز، يسوده الضحك والمرح.
حاولت كسر هذا التوتر الذي لم نستطع إنكاره في داخلنا: “أنا بطلة! لتعرفوا أن للمجانين فائدتهم في هذي الحياة!”.
تجاوبوا معي بضحكات مصطنعة، لأن ما حدث كان محزنًا جدًا، كفيلًا بجعلنا جميعًا نشعر بذات الثقل في صدورنا، النابع من الإحساس بالمسؤولية تجاه تلك العجوز المسكينة.
 كان مصيرها يعتمد على ثقة أحدنا بذلك الإحساس القويّ الذي تشاركناه، وكنت أنا من نلت شرف البطولة، باندفاعي الذي غالبًا ما يسمى طيشًا أكثر من الشجاعة.
انجرفت مع ما كنت متأكدة جدًا من أنه سخيف، لكن اقتناعي بأن دوري في الحياة هو دور المهرج السخيف، كان دافعي الوحيد لاتخاذي لتلك الخطوة.
ما دفعني للتساؤل عما إذا كنتُ فعلًا سخيفة، وعن منبع هذا الإحساس بالسخف.


وأدرك الآن أني كنت أحاول جاهدة، التجرّد من كل أحاسيسي التي ظننتها تبدي ضعفي، وكنت أفضل أن أُعزي الأسباب دائمًا إلى قوانين فيزيائية فقط، لكي لا أبدو بنفس السخف الذي أخبئ شعوري به، ناكرة لتلك المشاعر اللحظية التي حركتني، تلك التي كأنها ضربٌ من الحب، ومتجاهلةً وَثَبَات قلبي الذي كاد يقفز من مكانه. لم أكن أجرؤ عن التحدث عن كل ذلك، إلا استهزاءً جارحًا في شخصي أنا فقط.
وأتذكر أني لا أحب المهرجين لأنهم ينسلّون من كرامتهم لأجل الحصول على المال، فأنا مثلهم، إلا أنني أتنازل عن الكثير وأنا أتساءل “علام سأحصل بالمقابل؟”.
عاطفتي التي لطالما كانت قوتها غريبة، أردت إخفاءها وردمها تحت التراب، وصوتها لا يكفّ يصلني، محبطًا جميع محاولاتي.
لم أدرِ حقًا ماهي العاطفة، ولم يسومها الجميع بالسوء، ويقل بسببها احترام العالم للأنثيات، لكن هذا الأخير، كان هو السبب وراء كل ما أشعر به من تهديد وقلق.
القدرة على الحب بلا شروط، والعطاء بلا اعتبار للكرامة، والذوبان المُنسي للعزة.
الحب هو الأقوى دائمًا، ودائما ما يُجابه القويّ بالقمع، رهبة منه، لا إشارةً لسوئه.


كان شخصُ -يشكّل جزءًا من قلبي- يمرّ بأسوأ مراحل حياته، يائسًا محبطًا مكتئبًا. كلمااقتربت منه، قابلني بقسوة لم يعاملني بها أحد قبله، ولكنّي في غمرة ذلك الذلّ، كنت أستطيع بجهد، أن أقول له “اشتقت إليك، واشتقت إلى حديثك ومزاحك معي”، وأستبدل بتلك الكلمات، جوًّا مشحونًا بالكراهية، بآخر ملأته توترًا وانزعاجًا، وهو بالنسبة لي خير مما سبقه.
مهما كانت كلمات كلتلك تشكل لي تحدياتٍ متهورة وسخيفة، إلا أنها كانت تزيح ثقلًا كان يكتمني ويمنع عني الهواء، وكأن جبال مكة مستقرة على صدري.
فحين نرغب بالتنفس، سنبذل كل الجهد لتستوعب الرئتان أي غاز حولنا، مهما اشتدّت سُميّته.
أقنعت نفسي أن هذه المخاطرات وهذا النوع من التعبير عن المشاعر، هو مجرد تدريب لي على مواجهة نفسي التي لم أتقبلها يومًا.
لطالما حاول الأغلبية قمع هذا الجمال النابع بصدق من داخلنا، الأب لا يحتضن ابنه، الأم لا تقبّل أبناءها.
وكأن هناك روحٌ شريرة تدور بيننا وتحثنا على التخلص من تلك المشاعر النقيّة، وعلى ملء صدورنا بالكبرياء والجشع، فنكتفي بالكتمان على حب من نتمتع بضمان قربه الدائم منّا، ونحرمه من السعادة بما نحس تجاهه من جمال العالم المتلخّص بكلمة "حب"، متناسين أن قربه لن يدوم جميلًا كمان عهدناه، ما لم نغذيه بعطف غير منقطع.
وبكل هذه الأفكار تحوم فوق رأسي، تجددت عزيمتي، وبتّ أتابع إرسال الرسائل البسيطة المحتوية في الغالب، على كلمة واحدة، هي "أحبك"، في كل مرة شعرت فيها بالحب نحو ذلك الشخص الذي لم يكفّ عن الابتعاد، ومحاولة دفعي بعيدًا عنه.
كان يصرّ على معاملتي كغريبة، وأصرّ أنا على تجاهلي لتفاهته، وأطلب منه مشاركتي له في طعامه، ولا أمتنع عن الضحك عليه إن تعثر في طريقه وكاد يقع.
وفي كل مرة  حاول فيها جعلي أكرهه أكثر، كان يزداد ضعفًا حين يجدني لا أبرح مكاني، متشبثة بحبي له أكثر.
لا ينقطع اتصالي به، لا تهمني عادته في إقفال الخط وانا لم أنه كلامي، أو لم ابتدئه حتى، ولا أنساه في عيد الحب كذلك، لا هو، لا صديقاتي، أفراد عائلتي، ولا أي شخص أحب وجوده في حياتي.
أظلّ أذكرهم بأن حبي سيظل يتأجج كنار لا تخمدها مياه المحيطات ولو صبت جميعها عليّ دفعة واحدة.
استمرّ ذلك الشخص في حزنه الشديد وقسوته على نفسه، ما يقارب العامين، حتى دخلت أنا نفس عالمه الكئيب، بظروف محيطي وأسبابي الخاصة.
وأجده فجأة يتصل بي، مستعدًا لانتشالي من ذلك الحزن العميق. دعاني إلى مقهى، أمضى معي ما يقارب الثلاث ساعات، تجاذبنا فيها مختلف أطراف الحديث. لم أستطع يومها تذكر آخر مرة رأيت فيها ابتسامته، كدت أنسى جمالها، عفويتها وسرعة قبولها في قلوب الناظرين.
كنت أحتمل قسوته بصمت وضعف بالغ، لكن حبي يجعل كفة الميزان ترجح بي، فأفوز رغم ضعفي.



الحب يجعلنا أقوياء، الحب هو القوة العظمى.
الحب أقوى من أن يُتجاهل ويطرد من حياتنا، فبغيابه عنها، تنقلب جحيمًا.
سأترك عادتي في البحث عن أقنعة تغطيني وعاطفتي، لأنها لا تكاد تثبت، حتى تسقط مستسلمة في وجه هذه القوة البديعة التي أودعها الله فينا.
النصر دائمًا سيكون من نصيب الحبّ، لأن الحبّ شجاعة.
الحبّ لا يشوهنا، بل يظهر فينا جمالًا نخافه، ونحسبه يؤذينا.




وأخيرًا..
في الحديث عن الحُبّ..
أريد أن أقول لك أبي، أنّي أحبك.
وأنّي آسفة حتى الموت، على كل لحظة حبّ أجّلت إفصاحي لك عنها، لمجرد أني كنت خائفة... خائفةٌ جدًا.
الحبّ لا يكون قاسيًا، إلا عند إنكاره..

الله يرحمك ويغفرلك يا أبويا 


Comments (2)

On 15 أغسطس 2016 في 1:32 ص , عبيدة عامر يقول...

رحمه الله وتولاه بنوره ورضاه.. الطيبون هانئون عند ربهم يا مريم، لا خوف ولا حزن..
جبر الله قلوبكم وكسركم ..

خطرتم جدا بالبال، وأرجو أن تكونوا جميعا، أنت والخالة صفاء وزينب وأحمد، والماما زبيدة، بخير وسلامة

 
On 15 أغسطس 2016 في 10:41 ص , Mariam....... يقول...

سبحااان الله والله قريب فكرت كتير اتواصل معاك واترددت عشان يمكن نسيتنا 😂💔

الله يسلمك ويخليك
كلنا افتقدنا طلاتك برضه
وأسعدتني جدا بسلامك وتعليقك،

اتمنى انك انت كمان تكون سعيد وبصحة كويسة وحياتك كلها رضا يا رب

وسامحنا على الانقطاع الطويل وعدم السؤال =\